زمن الغربة


إن مطلق النظر في أحوال الأمة اليوم, يزداد يقينا وإيمانا بأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى يوم القيامة, وأن غربة الدين تشتد يوماً بعد يوم كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, ( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ). رواه مسلم
وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم عن القاضي عياض أنه قال في معنى هذا الحديث: 
"أَنَّ الإِسْلام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة ، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالإِخْلال ، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ "

السنن الكونية:
ونحن في ظل الحملات الشرسة التي تُشن على الدعاة من أهل الصلاح والاحتساب, لا يسعنا إلا أن نزداد يقيناً بأن كل ذلك هو مصداق لقول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وهو يصف حال أولئك الغرباء بقوله: ((قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم))
إن هذه الأوصاف المذكورة للغرباء تدلنا على أنهم أهل غيرة، ودعوة، وإصلاح، ولم يكونوا صالحين يائسين، مستسلمين لواقعهم الفاسد ، وإنما سُمُّوا غرباء لقلتهم في الناس جداً فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة – الذين يميزونها من الأهواء والبدع – غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ] 
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: [بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
وإن هذه الغربة إنما هي صورة تجسد الصراع بين الحق والباطل, حينما يزداد أهل السوء ويقل أهل الخير مع كثرتهم !
لكن انصراف الناس عنهم ومعصيتهم لهم واستهزائهم بمهمتهم العظمى في إقامة الحق والأخذ على يد المفسد, تجعلهم قليل غير مُلتفت إليهم إلا بتهمة أو سخرية أو انتقاص !
وفي ذلك تحقيق لسنن الله الكونية:
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}
{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}
وهكذا تتوالى الصراعات بين دعاة الحق ودعاة الباطل, وتتوالى الفتن والابتلاءات إلى قيام الساعة, ليتحقق معنى الغربة ويحق القول على أهلها بأنهم (قوم صالحون في ناس سوء كثير, مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم).

فتن في أزمنة الغربة:
إن من أعظم الفتن التي ابتليت بها الأمة في أزمنة الغربة؛ فتن الشبهات والشهوات التي تصاغ بين الفينة والأخرى ويتولى كبرها أهل الفساد والإفساد دعاة على أبواب جهنم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ..! معول هدم للدين والقيم والأخلاق, لا يجعلون للدين قيمة في حياتهم فلا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، بل شرعوا القوانين الشيطانية وسموها تعاليم وأنظمة ولوائح، كل ذلك ليبعدوا الناس عن دين الله ـ سبحانه ـ فلا يحكمون به ولا يتحاكمون إليه, همهم وغايتهم خلخلة القيم الراسخة في المجتمع الإسلامي من الطهر والعفاف وحفظ العهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستبدلوا ذلك بالتفرق والإباحية ونشر الرذيلة.
فتارة ينادون بالتعليم المختلط, وتارة ينادون بالعمل المختلط, وأخرى ينادون بتقنين عمل الحسبة وتقليصه..!
وهم على كل حال لا يطمعون إلا في تحقيق آمالهم من إغواء المجتمع, واتباع أهوائهم في تدمير القيم.

والله متم نوره:
قد يظن أولئك المبطلون أن باطلهم حين يستشري وينتشر يكون ذلك علامة على صحته وقوته، وأن الله قد قبل بذلك الضلال والباطل، فلا يتدخل لنصرة دينه, وتأييد دعاته وأولياءه! 
أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلِمَ تركه الله يغلب وينتصر؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب الحق، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم يدع المبطلين والمفسدين يتمادون في باطلهم، ويسارعون في إفسادهم، ويلجون في طغيانهم! وهذا كله وَهْم وباطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كما يظنون أو يريدون, بل كما يريد الله : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
و{قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم}

وصية وتثبيت:
وأنتم أيتها السُرج الزاهرة, والنجوم الساهرة, من دعاة الأمة المخلصين, ومحتسبيها الصالحين, هنيئا لكم غربتكم, وبوركت دعوتكم, وأفلح احتسابكم, ونلتم بركة دعوة نبيكم: (طوبى للغرباء).
وهذا ابن القيم يخاطبكم:
إذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه ، وفقهاً في سنة رسوله ، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه : من الأهواء والبدع والضلالات ، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وازدرائهم به ، وتنفير الناس عنه ، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم- ، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل . فهو غريب في دينه لفساد أديانهم ، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع ، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم .
فانظر إلى تفسيره الغرباء :: بالمحيين سنته بكل زمان
طوبى لهم والشوق يحدوهم إلى :: أخذ الحديث ومحكم القرآن
طوبى لهم لم يعبئوا بنحاتة الأ :: فكار أو بزبالة الأذهان
طوبى لهم ركبوا على متن العزا :: ئم قاصدين لمطلع الإيمان
طوبى لهم لم يعبئوا شيئا بذي الآ :: راء إذ أغناهم الوحيان
طوبى لهم وإمامهم دون الورى :: من جاء بالإيمان والفرقان


اللهم احفظنا بالإسلام قائمين
واحفظنا بالإسلام قاعدين
واحفظنا بالإسلام راقدين
ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين
الله أعذنا من مضلات الفتن ماظهر منها وما بطن
 اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا راشدا تعز فيه وليَّك ، وتذل فيه عدوَّك ، ويُعمل فيه بطاعتك و يُتناهى فيه عن سخطك". 









تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفريغ الدرس السادس من شرح أسماء الله الحسنى اسم الله (الحق) جلّ جلاله

الدرس السابع و العشرون من شرح أسماء الله الحسنى ا سم الله: (الحفيظ) جل جلاله

الدرس العاشر من دروس شرح أسماء الله الحسنى اسم الله (اللطيف) جل جلاله