وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون!


إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا
وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون

إنه في يوم الجمعة التاسع من شهر رمضان المبارك لعام 1436هـ / 2015 مـ يشاء الله أن تُقبض روحٌ طيبة مباركة نحسب صاحبها من أهل الله وأوليائه، أهل الله وخاصته؛ الشيخ محمد نبهان بن حسين مصري، الحموي المكي شيخ القراء بمهبط الوحي أم القرى مكة المكرمة،
          قضى الشيخ حياته في تعليم القرآن وإقرائه للقريب والبعيد، والرجال والنساء، ولم يتوانى يومًا ولم يكسل ولم يفتر، بل كان يواصل تعليمه وإقراءه لطلابه ويقدم تعليمهم على راحته ونومه وطعامه وشرابه.

          كان فقيهًا مجتهدًا يحب العلم وأهله، ويعين ويشجع عليه، وكان كثير الحث لطلابه على الحفظ والمثابرة والمصابرة في حفظ كتاب الله، وهو في ذلك مساعدًا لهم، ومعينًا.
          ألف الشيخ في التجويد والقراءات كتبًا خدمت أهل القرآن وطلاب العلم، وبلغت ستة عشر كتابًا، ومنها:
1.     الثُّمُر اليانع في رواية الإمام قالون عن نافع.
2.     الاستبرق في رواية الإمام ورش عن نافع من طريق الأزرق.
3.     القمر المنير في قراءة الإمام المكي عبد الله بن كثير.
4.     فوح العطر في رواية الدوري عن أبي عمرو.
5.     حُسْن الجلاء في رواية السوسي عن أبي عمرو بن العلاء.
6.     السنا الزاهر في قراءة الإمام الشامي عبد الله بن عامر.
7.     الرِّياش في رواية الإمام شعبة بن عيَّاش.
8.     النور السنائي قي قراءة علي بن حمزة الكسائي.
9.     عبيرٌ من التحبير في القراءات الثلاث المتممة للعشر.
10.                        البشرى في القراءات العشر الكبرى.

من أشهر طلابه من أئمة الحرم المكي: الشيخ عادل الكلباني والشيخ خالد الغامدي والشيخ فيصل غزاوي، وغيرهم من طلاب العلم وأهل الفضل.

قصة حفظه للقرآن كما كتبها الشيخ علي بن سعد الغامدي، وكما رواها الشيخ محمد نبهان مصري لي أنا سوزان المشهروي:

قال الشيخ علي الغامدي -حفظه الله-:

بسم الله الرحمن الرحيم كنت في زيارة الشيخ المقرئ : محمد نبهان بن حسين مصري الحموي، ثم المكي (ت: عصر الجمعة: ٩/ ٩/ ١٤٣٦ هجرية) رحمه الله تعالى، بمنزله، ببطحاء قريش، بمكة، ليلة الجمعة: ٩/ ٩/ ١٤٣٦ هجرية. وحدثني في تلك الليلة بقصّة حفظه القرآن؛ فرأيتُ أنها عجب؛ فأحببتُ أن أدوّنها بُعيد وفاته؛ خشية أن يطالها النسيان؛ إذا طال عليها الزمان، وسأسوقها على وجه الاختصار: أخبرني الشيخ أن بصره بدأ في الضعف وهو في الثانية عشرة من عمره، وذهب تماماً وهو في السادسة عشرة منه. وقد أمره أبوه حينها أن يحفظ القرآن؛ فنفر الشيخ من هذا؛ معتقداً أن كل مكفوف يحفظ القرآن؛ فلا بد له من التكسّب به في المآتم، وعند القبور. فوعده والده أن يقيه هذا السبيل؛ فلم يقنع بذلك؛ فهجره والده. فأخذ الشيخ يبتهل إلى الله في آناء الليالي: إن كان حفظه للقرآن سيؤدي به إلى هذا المسلك أن يقبضه الله إليه. فلما رأى الشيخ تصميم أبيه؛ ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ فسوّل له الشيطان أن ينتحر! ففكَّر في حرق نفسه ! ثم قال في نفسه : هب أني لم أمت؛ فأكون قد جمعتُ على عَمَاي تشويه جلدي، ثم فكّر في رمي نفسه من سطح الدار؛ فعرض له الهاجس الماضي، وهكذا الأمر في طعن نفسه بسكين. ثم استقرّ رأيه على أن يبتلع عدداً كبيراً من الحبوب المنوّمة، فإذا لم يمت فلن يتشوّه، فعزم على أن يذهب لإحضار تلك الحبوب. وبينما هو مستلقٍ على السرير في اليقظة إذا به يرتفع عن السرير شيئاً فشيئاً ! حتى اقترب من سقف الغرفة؛ فانفرج السقف ! كأنه باب قد فتح ! حتى جازه. قال الشيخ: فانعقل لساني، وأخذتُ أستغفر في نفسي من سوء ما هممتُ به من قتل نفسي. قال: فبدأتُ أهبط شيئاً فشيئاً، حتى جاوزتُ سقف الغرفة ؛ فالْتَأَمَ السقف، وعدت إلى سريري، وانطلق لساني. ثم قمتُ مذعوراً، مصفرّاً وجهي، وقلت لأهلي : هاتوا لي شيخاً لأحفظ عليه القرآن؛ ففرح أهلي، واستبشروا. ثم ذكر الشيخ أنه حفظ القرآن على شيوخ أربعة. ثم جوّده على الشيخ سعيد العبد الله، رحمه الله وقرأ عليه القراءات ، وقرّبه الشيخ سعيد، وجعله وكيلاً له على معهد دار الحفَّاظ والدراسات الإسلامية في حماة. قال الشيخ: فتغيّرت حياتي، وشعرتُ بالعزة. يقول الشيخ : كان أبي يملك الملايين، وبعد أن حفظتُ القرآن أصيبَ في ماله؛ فأصبح مديناً بالملايين؛ فأخذ الناس يواسونه؛ فجعل يقول: أنا لست خسران؛ ما دام نبهان قد حفظ القرآن. قلتُ : لما قال الشيخ هذه العبارة بكى. رحم الله الشيخ محمد نبهان، وجزاه خيراً على ما بذله في سبيل تعليم القرآن.


مما كُتب عن الشيخ محمد نبهان مصري -رحمه الله-:

فقد كان في آخر عهده بالدنيا يُقرئ طالباً القرآن بعد أن صلى العصر ثم تعب فجأة ونقل لمستشفى النور وتوفي هناك رحمه الله. . - وكان قبله بقليل قد أجاز - رحمه الله - طالبة من الأمارات بعد الجمعة اليوم. . وكان ترتيب المجازة منه اليوم ١٤٨٨ يعني أنه أجاز في حياته ١٤٨٨ طالباً وطالبة. منهم من أجيز برواية ومنهم بقراءة إمام ومنهم بأكثر ومنهم بالسبع ومنهم بالعشر !! فإذا افترضنا أنه أقرأ خمسين سنة من عمره الذي توفي عن سبعين عاماً فمعنى هذا أنه كان يقرأ ويجيز كل سنه حوالي ٣٠ طالباً وهذا أمر عسير وجهد كبير وطاقة كبرى لايصبر عليها إلا من وفَقه الله لهذا الأمر العظيم .. وفوق ذلك كان -رحمه الله- ضريرا .. - توفي وهو صائم وبعد عصر الجمعة في ساعة إجابة .. - وكان قد قضى عمره كله مع القرآن يختم طوال حياته وفي سائر أيامه كل ثلاثة أيام ختمه ! كل ختمه لراوٍ .. - وكان وجهه منيراً مشرقاً أثناء التغسيل.. وكلها مبشرات للمؤمن فسبحان ربي العظيم الكريم فانظر لهذه الحياة الطيبة مع القران وأهله .. ميتة يشتريها المؤمن بحياته لو أن بها بقية. . اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ..

مسيرتي القرآنية مع الشيخ:

بدأت مسيرتي القرآنية مع الشيخ مما يقارب عشرين عامًا، حيث كانت البداية حينما دلتني عليه إحدى الأخوات لما علمت من رغبتي في نيل السند المتصل للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكنت وقتها أعيش في مدينة ينبع، فاتصلت على الشيخ وعرفت بنفسي، فرحب بي خير ترحيب، ولم يبدي أي تردد في قبولي كطالبة تقرأ عليه.
ثم ضربت معه موعدًا للقراءة إن أتيت إلى مكة، وكان أول لقاء مع الشيخ عند المسجد الذي كان يؤم المصلين فيه الشيخ عبد الودود حنيف، ذهبت وزوجي إلى هناك فتعرف عليه زوجي وسلم عليه، وركب معنا الشيخ السيارة، لنذهب إلى بيته، وفي الطريق طلب مني الشيخ أن أقرأ من سورة البقرة، فقرأت خمس آيات ثم أوقفني الشيخ قائلًا: حسبك يا بنتي!
وأثنى على قراءتي خيرًا وأعجب بها، ووصلنا إلى بيته وبدأت أول ختمة معه برواية حفص عن عاصم.

واستمرت مسيرتي مع الشيخ أعوامًا إلى قبل وفاته بشهرين، حيث قرأت على يديه ما يقارب سبع ختمات كاملة غير المتفرقات، وأول ختمة انتهيت من قراءتها معه وأجازني فيها بالسند المتصل، كانت يوم 30/ رمضان /١٤٢٠هـ قبيل الغروب.

درست على يدي شيخي؛ القراءات السبع ولم أكملها بعد، وقرأت عليه الشاطبية  وكتابه مذكرة في علم التجويد حرفًا حرفًا، وأجازني فيه، وقرأت عليه شيئًا من غاية المريد، وأوصلني بالدكتور محمد حوى -حفظه الله- فقرأت عليه الجزرية وأجازني فيها.

وكنت قد هممت وأضمرت في نفسي أن أنتهي من الرسالة هذا العام ثم أستأنف مع الشيخ تتمة القراءات السبع ثم أشرع في العشر، لكن سبقني القدر وأسرعت له يد المنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

بعض مواقفي مع الشيخ:

-         كنت أزور الشيخ للقراءة مرة في كل شهر تقريبًا حينما أحضر إلى مكة، فأذهب إليه أنا وأحد أبنائي الصغار وتارة زوجي، فأجلس عنده النهار أو المساء أقرأ عليه ويسمعني، وكان الشيء العجيب عند الشيخ ما آتاه الله إياه من قوة الملاحظة، والقدرة على متابعة عدة قرّاء في نفس اللحظة!
-         حيث كان يقرأني ويقرأ معي أكثر من أخت، غير الذين يكونون على الهاتف يستمع منهم إلى القرآن من دول مختلفة، وقراءت مختلفة!
-         وقد يظن الرائي للمشهد أن الشيخ لا ينتبه ولا يلاحظ الخطأ لتعدد القراء عنده، لكن الأمر خلاف ذلك تمامًا، فقد كان الشيخ شديد الملاحظة قوي المتابعة، يقدر على متابعة الجميع في نفس اللحظة! وذك فضل الله يؤتيه من يشاء!

تقول إحدى طالباته (أمل إسماعيل): 
من كرامات القران التى رأيتها بعينى:
عندما أصيب الشيخ رحمه الله بجلطه فى المخ سنة 2010 وفى بداية المرض كان شديدا عليه وكنت ملازمة له مع زوجى لعلاجه، 
فكان الشيخ لا يتحدث بأي كلمة مفهومة أبدا، إلا إذا اتصل أحد طلابه فإذا به يصحح له آيات كاملة وحروفا دقيقة، ونحن فى تعجب شديد ولكنها هذه كرامة القران وأهله! 


-         كان الشيخ لا يفتر عن قراءة القرآن أثناء كل تحركاته وحين سكناته، تجد لسانه يتحرك بالقرآن!

-         دخلت عند الشيخ يومًا في الصيف الشديد، والكهرباء قد انقطعت عن الحي وكنا في رمضان، وكان الشيخ يتصبب عرقًا، وقد احمر وجهه من شدة الحرارة، فقلت له: ما أشد الحر اليوم  في مكةيا شيخ! وانقطاع الكهرباء أكمل الناقص! فغضب مني وقال: لا تقولي هذا عن مكة يا أم البراء ولا تتذمري من حرّها فيحرمك الله البقاء فيها، ثم أمرني بالقراءة! خجلت من نفسي لحظتها واحتقرتها!

-         الشيخ كان معروفًا بالتواضع ولين الجانب وحسن الخلق، ومن عاشره وجالسه ولو لمرة واحدة عرف ذلك وأقرّه، ومن صور ذلك أني ما دخلت عليه يومًا إلا وبادر بتضييفي آمرًا أحد بناته أو أحفاده وأحيانًا زوجته -حفظها الله- بإحضار الضيافة لي، وبالذات لما عرف أني أحب القهوة التركي، كان يطلبها لي من حين حضوري.

-         كما كان يقدم لي الكعك وشاي الأعشاب بالعسل ويطلب مني أن أشرب وآكل ثم أقرأ، هكذا كلما زرته أنا وزوجي أو أحد أبنائي.

-         من حسن خلقه وجميل تعامله وتواضعه؛ أني كنت كلما اتصلت عليه فقلت: السلام عليكم شيخي معك أم البراء، ردّ مباشرة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أنعم وأكرم بأم البراء وأهلا وسهلا.

-         بلغ من تواضعه وحرصه على تلميذه، أني إذا تأخرت عن موعد التسميع لأي ظرف، يتصل الشيخ بنفسه ليسأل عني ويحدد لي موعدًا يناسبني! وأظن هذا حاله مع جميع طلابه.

-         من تواضعه أني كنت إذا اتصلت عليه لأطلب كتابًا من كتبه وليس عندي من يحضره لي، أنه يرسل أحد أبنائه ليحضره لي للبيت، فجزاه الله وأهله وذويه عنا خير الجزاء.

-         هو من اختار اسم ابني الأخير (إلياس) وكنت قد ذهبت إليه وأنا حامل، فقال لي: سمه إلياس يا أم البراء، فنحن المسلمون أولى باسم إلياس من النصارى، وأنا قد سميت ابني الأصغر إلياس فسم ابنك مثله، وفعلًا سميته.

-         آخر ما قاله لزوجي في آخر لقاء له بنا: أكرم أم البراء وأحسن إليها، فهي من خير النساء، وأنا أحسبها نقية بيضاء طيبة القلب. ثم أوصاني بزوجي خيرًا.

-         كان –رحمه الله- يدعو لي كثيرًا بدعوات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، وذلك حاله معي في كل لقاء أو مكالمة.

وها هو شيخي قد فارق الحياة ورحل لأرحم الراحمين، رحل للحياة الحقيقية والنعيم الحقيقي، ليستقر في مقعد صدق عند مليك مقتدر بإذن الله.

قال أحد أبنائه:
قبل وفاة أبي بيومين أو ثلاثة كان يقول: الظاهر أن الأجل قد اقترب!
وأوصاهم بأن لا يدفنوه في مقابر ينقل منها الميت بعد فترة، كمقبرة المعلاة بمكة، وبعدما توفي كانت الأوراق الرسمية قد خرجت بدفنه في مقبرة المعلاة، ثم فجأة هيأ الله أحد طلبته يعمل في أمانة العاصمة المقدسة، وفضيلة الشيخ فيصل غزاوي إمام الحرم، ليتم تعميد دفنه في مقبرة العدل، حيث لا ينقل منها الأموات ولو بعد فترة، كما كانت أمنية الشيخ ووصيته، لقد أكرمه الله وبلغه ماطلب بفضل منه سبحانه فهو الكريم، من أكرم كتابه أكرمه.

تبكيك سماء طالما رُفع من خلالها قراءتك للقرآن
تبكيك أرض طالما جلست تقرأ عليها القرآن وتُقرأه
تبكيك قلوب طالما انشرحت بتعليمك لها القرآن
تبكيك أعين طالما منحتها لذة النظر للقرآن
سلام عليك وعلى روحك يا شيخي ومعلمي

ذهــب الأحبــة بعــد طــول تــزاور
ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركــوك أوحــش ما تكــون بقفــرة
لم يؤنسوك وكربــة لم يدفعـــوا

قضي القضاء وصرت صاحب حفرة
عنك الأحبة أعرضوا وتصدعــــوا

اللهم ارحم عبدك محمد نبهان
اللهم آنس في القبر وحشته، وارحم تحت التراب غربته
اللهم إنه كان خادمًا لكتابك أمينا على حروفه
اللهم فأمنه من كل فزع وخوف
وأنزل على قبره النور والسرور
اللهم نور قبره كما نور قلوب عباد لك بالقرآن
اللهم بشره بروح وريحان ورب راضٍ غير غضبان
اللهم اجعل القران له في القبر صاحبًا وأنيسًا كما كان في الدنيا له صاحبًا وأنيسًا

          

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفريغ الدرس السادس من شرح أسماء الله الحسنى اسم الله (الحق) جلّ جلاله

الدرس السابع و العشرون من شرح أسماء الله الحسنى ا سم الله: (الحفيظ) جل جلاله

الدرس العاشر من دروس شرح أسماء الله الحسنى اسم الله (اللطيف) جل جلاله